فصل: (باب هيئة الجمعة والتبكير)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: شرب الماء حال الخطبة]

يجوز شرب الماء في حال الخطبة للعطش أو للتبرد.
وقال مالك، وأحمد، والأوزاعي: (لا يجوز).
قال الأوزاعي: (فإن فعل ذلك... بطلت جمعته).
دليلنا: أن الكلام إذا لم يبطلها، فشرب الماء أولى.
قال الشافعي: (فإن قرأ آية فيها سجدة، فنزل، وسجد... لم يكن به بأس)؛ لما روي: (أن عمر فعل ذلك).
فإن تركها... كان أولى؛ لما روي: أن عمر قرأ السجدة في الجمعة الثانية، فتهيأ الناس للسجود، فقال: (أيها الناس، على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا)، ولم يسجد.
فإن نزل، وسجد، وطال الفصل... فهل يبني، أو يستأنف؟ فيه قولان:
قال في القديم... (يبني)، وقال في الجديد: (يستأنف).

.[مسألة:ركعتا الجمعة]

وإذا فرغ من الخطبة... نزل وصلى الجمعة ركعتين، وهو نقل الخلف، عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن نوى أن يصليها ظهرًا مقصورة... قال في "الفروع": فهل يجزئه؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الواجب يوم الجمعة.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة [الجمعة]، وفي الثانية بعد الفاتحة سورة [المنافقون].
قال الشافعي: فإن قرأ في الأولى سورة [المنافقون]... قرأ في الثانية سورة [الجمعة]، حتى لا تخلو الصلاة من هاتين السورتين.
وقال مالك:يقرأ في الأولى سورة [الجمعة]، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1].
وقال أبو حنيفة: (لا تتعين القراءة المستحبة فيهما، وهما وغيرهما في الفضل سواء).
دليلنا: ما روي عن عبيد الله بن أبي رافع: أنه قال: «قرأ أبو هريرة في صلاة الجمعة سورة [الجمعة] و [المنافقون]، فقلت له: قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما، فقال أبو هريرة: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأهما في صلاة الجمعة».
ولأن في الأولى ذكر الجمعة، وفي الثانية ذم المنافقين، وهذا أليق بالموضع، فإن قرأ غيرهما من السور... جاز؛ لما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الجمعة في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]».
ويستحب أن يجهر بالقراءة فيهما؛ لأنه نقل الخلف عن السلف، وأما ما روي:أن صلاة النهار عجماء: فإنما روي ذلك عن بعض التابعين، وإن صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -... فإنه أراد: أكثر صلاة النهار عجماء، بدليل: أن صلاة الصبح يجهر بها، وهي من صلاة النهار. وبالله التوفيق.

.[باب هيئة الجمعة والتبكير]

والغُسل للجمعة سنة، وليس بواجب، وبه قال عامة أهل العلم، وقال الحسن البصري، وداود، وأهل الظاهر: (هو واجب).
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة... فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغُسل أفضل»: فجعل غُسل يوم الجمعة فضيلة، فدل على أنه لا يجب.
فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فبها ونعمت»: قال ابن الصباغ: معناه: فبالفريضة أخذ، ونعمت الخلة الفريضة.
وحكى أبو عبيد الهروي، عن الأصمعي: أنه قال: فبالسنة أخذ. وقال بعضهم: فبالرخصة أخذ.
ومما يدل على ما ذهبنا إليه: ما روي: «أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل المسجد، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخطب على المنبر، فقال أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: كنت في السوق، فلم أشعر إلا أن سمعت النداء، فما زدت على أن توضأت وجئت، فقال عمر: والوضوء أيضًا؟! وقد علمت: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا بالغسل». فأقره عمر على ترك الغسل بحضرة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو كان واجبًا... لم يجز تركه.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم»: فأراد: وجوب اختيار، لا وجوب إلزام، بدليل ما ذكرناه.
وهل يسن غُسل الجمعة لليوم، أو للصلاة؟ فيه وجهان:
المشهور: أنه يسن للصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جاء منكم إلى الجمعة... فليغتسل».
فعلى هذا: لا يسن لمن لا يأتي الجمعة.
والثاني: يسن لليوم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم».
فعلقه على اليوم.
فعلى هذا: يسن لمن يحضر الصلاة، ولمن لا يحضرها.
فإن اغتسل للجمعة قبل الفجر... لم يجزئه، وقال الأوزاعي: (يجزئه).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم». فعلقه على اليوم.
وإن اغتسل بعد طلوع الفجر، وراح إلى الجمعة عقيبه... فقد أتى بالأفضل، وإن لم يرح عقيبه أجزأه عندنا.
وقال مالك: (لا يجزئه).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة... فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغُسل أفضل». ولم يفرق بين أن يروح عقيبه، أو لا يروح.

.[مسألة:الغسل من الجنابة يوم الجمعة]

وإن كان جُنبًا يوم الجمعة، فاغتسل غُسلين: غسلًا عن الجنابة، وغسلًا عن الجمعة... فقد أتى بالأفضل، وإن اغتسل غسلًا واحدًا، ونواه عنهما أجزأه.
وقال مالك: (لا يجزئه).
دليلنا: ما روى نافع: (أن ابن عمر كان يغتسل يوم الجمعة غُسلًا واحدًا عن الجنابة والجمعة)، ولأنهما غسلان ترادفا، فأجزأه عنهما غسل واحد، كما لو كان على المرأة غسل جنابة، وغسل حيض.
وإن اغتسل عن الجنابة، ولم ينو الجمعة... أجزأه عن الجنابة، وهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينوها.
والثاني: يجزئه؛ لأن القصد بالغسل عن الجمعة التنظيف، وقد حصل.
وإن اغتسل، أو نوى الغسل عن الجمعة، ولم ينو عن الجنابة... فهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه عن الجمعة؛ لأنه قد نواها، ثم يجب عليه أن يغتسل عن الجنابة.
والثاني: لا يجزئه عن الجمعة؛ لأن المقصود من غُسل الجمعة التنظيف، ولا تنظيف مع بقاء الجنابة.
قال في "الإبانة" [ق\29] إذا اغتسل بنية الجمعة، وكان يوم عيد... فقد حصل له غسل الجمعة والعيد، وإن اغتسل بنية العيد حصل له غُسل العيد والجمعة؛ لأنهما غُسلا نفل، فتداخلا، بخلاف غسل الجمعة والجنابة.

.[فرع: يستحب مع غسل الجمعة]

ويستحب له مع الغُسل يوم الجمعة أن يفعل ستة أشياء: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، والسواك، وقطع الروائح الكريهة، ولبس أحسن ثيابه، والتطيب؛ لما روى أبو سعيد، وأبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة، واستن، واستاك، ولبس أحسن ما يجد من الثياب، وخرج، ولم يتخط رقاب الناس، وركع ما شاء الله له أن يركع، وأنصت إذا خرج الإمام... كانت كفارة ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة التي قبلها. قال أبو هريرة:وزيادة ثلاثة أيام؛ قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]» [الأنعام:160].
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم الجمعة: يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب... فلا يضره أن يمسه».
قال الشافعي: ويستحب ذلك للعبيد والصبيان إذا أرادوا حضور الجمعة.
ويستحب للنساء التنظيف بالغسل والسواك، ويكره لهن لبس الشهرة من الثياب، والطيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى الافتتان بهن.
ويستحب له أن يلبس من الثياب البيض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البسوا البياض؛ فإنها خير ثيابكم».
ولأن البياض كان أكثر لبس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و: «كفن في ثلاثة أثواب بيض»، ولم ينقل: أنه لبس السواد إلا يوم فتح مكة، فـ: «إنه دخل وعلى رأسه عمامة سوداء».
فإن لم يجد البياض... قال الشافعي: (فعصب اليمن، وهي هذه الأبراد المخططة التي يصبغ غزلها، ثم ينسج).
و (الغزل): العصب، و (الغزال): هو العصاب الذي يبيع الغزل.
ولا يستحب لبس ما صبغ ثوبه، قال الشيخ أبو حامد: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلبسها.
ويستحب له أن يرتدي بُردًا، ويعتم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي كرَّم الله وجهه: «العمائم تيجان العرب»، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة تكتب أصحاب العمائم يوم الجمعة».
ويستحب للإمام من ذلك أكثر مما يستحب لغيره؛ لأنه يقتدى به.

.[مسألة:التبكير للجمعة]

ويستحب التبكير إلى الجمعة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى... فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة... فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة... فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
قال الشيخ أبو حامد: يعني: الصحف التي يكتب فيها فضل التبكير.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان يوم الجمعة... كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم، الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طويت الصحف»، ومن أين تعتبر هذه الساعات؟ فيه وجهان:
أحدهما: من طلوع الشمس؛ لأن الساعة لا تعلم إلا بعد طلوع الشمس، فأما قبله: فلا.
والثاني: وهو ظاهر قول الشافعي: أنها تعتبر من طلوع الفجر؛ لأنه أول اليوم، وبه يتعلق جواز الغسل، هذا نقل الشيخ أبي حامد وأصحابنا البغداديين.
وقال القفال: ليس المراد هاهنا بالساعات: أعداد ساعات اليوم والليلة التي هي أربع وعشرون ساعة في الليلة واليوم، حتى إن اثنين إذا أتيا على التعاقب في ساعة واحدة، استويا في الأجر.
وإنما معنى الخبر: أن من كان أسبق الاثنين رواحًا... فهو أعظم أجرًا وإن كان بينهما لحظة، وهو عبارة عن ترتيب المجيء، لا غير.
قال الشافعي: (فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]. فأمر الله بالسعي بعد النداء، وهو بعد الزوال... فكيف استحببتم السعي قبل الزوال؟ -قال - فالجواب: أن السعي المأمور به بعد الزوال واجب، وذلك لا يمنع استحباب السعي قبل الزوال).
والمستحب: أن يمشي إلى الجمعة على سجية مشيه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الصلاة... فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة».
ولا يركب من غير عذر؛ لما روى أوس بن أوس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع، ولم يلغ... كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها».
وقوله: (غسل) فيه ثلاث روايات: غسل - بالتخفيف - وروي: غسل - بالتشديد - وروي: عسل - بالعين غير معجمة منقوطة - فمن روى بالتخفيف... فأراد: توضأ واغتسل، ومن روى بالتشديد فأراد: جامع أهله، فاغتسل وغسل غيره، وكذا من روى بالعين... أي: ذاق العُسيلة - وهو الجماع - واغتسل.
وقوله: "بكر"، أي: خرج في الساعة الأولى، وفي "ابتكر" تأويلان: أحدهما: أنه أراد: حضور أول الخطبة، مشتق من: باكورة الثمرة، وهو أولها.
والثاني: أنه أراد: فَعل فِعل المبتكرين، من الصلاة، والقراءة، والطاعة.
فإن كان عاجزًا عن المشي... لم يكره له أن يركب؛ لأنه إذا لم يكره له ترك القيام في الصلاة للعجز فلأن لا يكره ترك المندوب إليه مع العجز أولى.
قال المزني: ومن بلغ باب المسجد... فالمستحب: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقول: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وألحح من طلب إليك.

.[مسألة:تخطي الرقاب يوم الجمعة]

قال الشافعي: (وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة قبل دخول الإمام، وبعده، إلا أن يكون إمامًا، فلا يكره؛ لحديث أبي سعيد، وأبي هريرة).
وحكى الطبري: أن القفال قال: إذا كان الرجل محتشمًا أو مخوفًا... لم يكره له أن يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة في الجامع؛ لما ذكرناه من حديث عثمان حين جاء وعمر يخطب، ولما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيء به حين مرض يهادى بين رجلين، حتى دخل المحراب».
فإن ازدحم الناس، وكان هناك فرجة، فإن علم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة، تقدموا إليها... لم يتخط؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
وإن كان يعلم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة لا يتقدمون إليها... جاز له أن يتخطى إليها؛ لأن به حاجة إلى ذلك، وهكذا: إذا علم أنهم يقومون إليها وإنما يتخطى إليها رجلًا أو رجلين جاز له ذلك؛ لأنه يسير.

.[فرع: اتخاذ موضع لسماع الخطبة]

قال الشافعي: (ولا أكره للرجل يوم الجمعة أن يوجه من يأخذ له موضعه، فإذا جاءه الآمر... تنحى له)؛ لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له يوم الجمعة، ليجلس فيه، فإذا جاءه محمد قام الغلام، وجلس فيه محمد.
فإن جلس رجل في موضع... فلا يجوز لغيره أن يقيمه منه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن يقول: تفسحوا، أو توسعوا».
فإن قام الجالس، وأجلس غيره مكانه... لم يكره له أن يجلس فيه.
وأما القائم منه: فإن تقدم منه إلى موضع أقرب إلى الإمام... لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له؛ لأنه آثر غيره بالقربة.
فإن وجد ثوبًا مفروشًا لرجل في المسجد... لم يجز له أن يجلس عليه؛ لأنه لا يجوز له أن يرتفق بمال غيره بغير إذنه من غير ضرورة، ولا يدفعه؛ لئلا يلزمه ضمانه.
قال الطبري: ولكن يُنحيه، كما نقول في المصلي إذا كان بين يديه كمشك في أسفله نجاسة، وهو في الصلاة: إن نحاه من غير أن يدفعه... لم يضره، وإن دفعه بطلت صلاته.
ويستحب له إذا نعس ووجد موضعًا لا يتخطى إليه أحد أن يقوم إليه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نعس أحدكم في مجلسه... فليتحول إلى غيره». ولا يشبك بين أصابعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحدكم في الصلاة ما دام يعمد إليها»، وهذا مكروه في الصلاة، فكره لمن ينتظرها.

.[مسألة:قراءة سورة الكهف يوم الجمعة]

والمستحب له: أن يقرأ سورة الكهف ليلة الجمعة؛ ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها... وقي فتنة الدجال».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة... غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة».
والمستحب: أن يكثر من الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجمعة ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة، فإني أبلغ، وأسمع».
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أقربكم إلي في الجنة أكثركم صلاة علي، فأكثروا من الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر». قال الشافعي: (يعني: يوم الجمعة وليلتها).

.[فرع: الاحتباء في الخطبة]

قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ولا يكره الاحتباء في حال الخُطبة، وروي ذلك عن ابن عمر.
قال بعض أصحاب الحديث: يُكره، وروى فيه حديثًا في إسناده مقال.
ودليلنا: أن ذلك لا يمنع من استماع الخطبة، فلم يكره، كالتربع.
قال الشيخ أبو نصر: وليس للشافعي نص فيما يصلى بعد الجمعة، والذي يجيء على المذهب: أنه يصلي بعدها ما يصلي بعد الظهر، فإن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا؛ لأنه روي عن ابن مسعود: أنه قال: (يصلي بعدها أربعًا).
قلت: وكذلك يصلي قبلها ما يصلي قبل الظهر.

.[مسألة:التنفل قبل الخطبة]

ولا ينقطع التنفل، ولا الكلام قبل خروج الإمام بالإجماع، فإذا خرج الإمام... لم ينقطع التنفل عندنا، حتى يجلس الإمام على المنبر، ولا ينقطع الكلام إلا بابتداء الإمام في الخطبة.
وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الإمام... حرم الكلام والتنفل).
دليلنا: ما روي عن ثعلبة بن أبي مالك: أنه قال: (قعود الإمام على المنبر يقطع السبحة - يعني: النافلة - وكلامه يقطع الكلام).
ولأن الصحابة كانوا يتحدثون وعمر على المنبر، فإذا ابتدأ الخطبة... سكتوا.
فإن دخل رجل والإمام يخطب على المنبر... صلى ركعتين تحية المسجد، وبه قال الحسن، ومكحول، وأحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره).
دليلنا: ما روى جابر، قال: «جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فجلس، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: يا سليك، قم، فاركع ركعتين، وتجوز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب... فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما».
وإن دخل والإمام في آخر الخطبة... لم يصل التحية؛ لأنه يفوته أول الصلاة مع الإمام، وهو فرضٌ، ولأن تحية المسجد تحصل بصلاة الجمعة.
ويجوز الكلام إذا جلس الإمام بين الخطبتين، وإذا نزل من المنبر؛ لما روي في حديث ثعلبة بن أبي مالك: (أن الصحابة كانوا يتحدثون، إذا نزل عمر من المنبر). ولأنه ليس بحال استماع.
وإذا بدأ الإمام الخطبة... أنصتوا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أنصت إلى الإمام يوم الجمعة حتى يفرغ من صلاته كفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام».
ولما ذكرناه من حديث أوس بن أوس.
وهل يجب الإنصات، أو يستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب، وبه قال عثمان، وابن عمر، وابن مسعود، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، واختيار ابن المنذر، ووجهه: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب... فقد لغوت»، و (اللغو):
الإثم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3].
وروى جابر: «أن ابن مسعود جلس إلى جنب أبي بن كعب والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فكلمه، فلم يجبه، فظن أنه على موجدة، فلما فرغوا... قال: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنك تكلمت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فلا جمعة لك، فأتى ابن مسعود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره بذلك؟ فقال: صدق أُبي، وأطع أُبيًا».
والثاني: أنه لا يجب، ولكن يستحب، وهو الصحيح، ووجهه: ما روي: «أن رجلًا دخل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: متى الساعة؟ فأشار الناس إليه أن اسكت، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثالثة: ما أعددت لها؟، فقال: حب الله وحب رسوله، فقال: إنك مع من أحببت».
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجه قومًا ليقتلوا رجلًا من اليهود بخيبر، فقدموا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال لهم: أفلحت الوجوه، فقالوا، ووجهك يا رسول الله، فقال: ما الذي صنعتم؟، فقالوا: قتلناه».
وروي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم سُليكا الغطفاني وهو يخطب).
ومن قال بهذا... قال: (اللغو): هو الكلام في الموضع الذي تركه فيه أدب.
وعلى القولين جميعًا: إذا تكلم... لم تبطل جمعته؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر ابن مسعود بإعادة الجمعة).
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون قريبًا من الإمام يسمع، أو كان بعيدًا لا يسمع، غير أن البعيد بالخيار: إن شاء... أنصت، وإن شاء ذكر الله تعالى؛ لما روي عن عثمان: أنه قال: (إذا خطب الإمام... فأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل ما للسامع). هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال في "الإبانة" [ق\92] هل يقرأ البعيد القرآن؟ فيه وجهان.
هذا فيما لا فائدة فيه من الكلام.
فأما إذا علم إنسانًا شيئًا من الخير، أو نهاه عن المنكر، أو رأى أعمى يتردى في بئر، أو رأى عقربًا تدب إليه... لم يحرم كلامه قولًا واحدًا.
وإن سلم رجل والإمام يخطب... كره له ذلك، وهل يرد عليه، ويشمت العاطس؟ يبنى على القولين في الإنصات.
فإن قلنا: إنه مستحب... رد السلام عليه، ولكن يرد السلام عليه واحد؛ لأن الرد فرض على الكفاية، وذلك يحصل بواحد، ويشمت العاطس واحد أيضًا.
وإن قلنا: إن الإنصات واجب، لم يرد السلام، ولم يشمت العاطس؛ لأن المسلم سلم في غير موضعه، فلم يرد عليه، وتشميت العاطس سنة، فلم يترك له الإنصات الواجب.
ومن أصحابنا من قال: يشمت العاطس ولا يرد السلام؛ لأن العاطس غير مفرط، والمسلم مفرط.
ومنهم من قال: يرد السلام ولا يشمت العاطس؛ لأن رد السلام واجب، وتشميت العاطس سنة.
والأول هو المنصوص.
وإن سلم صبي في غير حال الخطبة... فهل يجب الرد عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي، وكذلك إن رد عنهم صبي فهل يسقط عنهم فرض الرد؟ فيه وجهان.